فصل: سورة آل عمران

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏276‏]‏

‏{‏يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ‏(‏276‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يمحق الله الربا‏}‏ أي ينقصه ويهلكه ويذهب ببركته قال ابن عباس لا يقبل الله منه صدقة ولا حجاً ولا جهاداً ولا صلة ‏{‏ويربي الصدقات‏}‏‏.‏ أي يزيدها ويثمرها ويبارك فيها في الدنيا ويضاعف أجرها في الآخرة‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله الطيب إلاّ أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله» لفظ مسلم والبخاري «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله» وفي رواية ولا يقبل الله إلاّ الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل‏.‏ ‏{‏والله لا يحب كل كفار‏}‏ يعني كل مصر على كفره مقيم عليه مستحل لأكل الربا ‏{‏أثيم‏}‏ يعني متمادياً في الإثم وفيه نهي عنه وأن من أكل الربا لا ينزجر عنه ولا يتركه وقيل يحتمل أن يكون الكفار راجعاً إلى مستحيل الربا والأثيم راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم فتكون الآية جامعة للفريقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏277- 278‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏277‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏278‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ يعني صدقوا بالله ورسوله ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ يعني التي أمرهم الله بها ‏{‏وأقاموا الصلاة‏}‏ يعني المفروضة بأركانها وحدودها في أوقاتها ‏{‏وآتوا الزكاة‏}‏ يعني المفروضة عليهم في أموالهم ‏{‏لهم أجرهم عند ربهم‏}‏ أي لهم ثواب أعمالهم في الآخرة ‏{‏ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏ أي يوم القيامة‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا‏}‏ قيل‏:‏ نزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وكانا قد أسلفا في التمر فلما كانا وقت الجذاذ قال صاحب التمر لهما‏:‏ إن أنتما أخذتما حقكما لم يبق لي ما يكفي عيالي فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما ففعلا فلما حل الأجل طلبا منه الزيادة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهما، وأنزل الله هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما، وقيل نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير ناس من ثقيف فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع‏:‏ فيما رواه جابر من أفراد مسلم «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتله هذيل وربا الجاهلية موضوع‏.‏ وأول ربا أضع ربا العباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كله» وقيل‏:‏ نزلت في أربعة إخوة من ثقيف وهم‏:‏ مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة بن عمرو بن عميرة بن عوف الثقفي كانوا يداينون بني المغيرة بن عبدالله بن عمير بن مخزوم، وكانوا يرابون فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف أسلم هؤلاء الإخوة بنو عمرو الثقفي وطلبوا رباهم من بني المغيرة فقال بنو المغيرة‏:‏ والله ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله تعالى عن المؤمنين فاختصموا إلى عتاب بن أسيد وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة فكتب عتاب إلى النبي بقضية الفريقين وكان ذلك مالاً عظيماً فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله‏}‏ أي خافوا الله فيما أمركم به وانتهوا عما نهاكم عنه، وذروا أي واتركوا ما بقي من الربا والمعنى واتركوا طلب ما بقي لكم ما فضل على رؤوس أموالكم ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ يعني إن كنتم محققين لإيمانكم قولاً وفعلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏279- 280‏]‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ‏(‏279‏)‏ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏280‏)‏‏}‏

‏{‏فإن لم تفعلوا‏}‏ أي لم تتركوا ما بقي من الربا بعد تحريمه ‏{‏فأذنوا‏}‏ قرئ بكسر الذال والمد على وزن آمنوا ومعناه‏:‏ فأعلموا غيركم أنه حرب لله ورسوله وقرئ فأذنوا بفتح الذال مع القصر ومعناه فأعلموا أنتم وأيقنوا ‏{‏بحرب من الله ورسوله‏}‏‏.‏ قال ابن عباس يقال لآكل الربا يوم القيامة‏:‏ خذ سلاحك للحرب‏.‏ قال أهل المعاني‏:‏ حرب الله النار وحرب رسوله السيف واختلفوا في معنى هذه المحاربة فقيل المراد بها المبالغة في الوعيد والتهديد دون نفس الحرب، وقيل‏:‏ بل المراد منه نفس الحرب وذلك أن من أصر على أكل الربا وعلم به الإمام قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التعزير والحبس إلى أن تظهر منه التوبة وإن كان آكل الربا ذا شوكة وصاحب عسكر حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ من كان مقيماً على أكل الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع أي تاب وإلاّ ضرب عنقه ‏{‏وإن تبتم‏}‏ أي إن تركتم أكل الربا ورجعتم عنه ‏{‏فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون‏}‏ يعني لا يظلمون أنتم الغريم بطلب زيادة على رأس المال‏.‏ ولا تظلمون أنتم بنقصان رأس المال نزلت هذه الآية قال بنو عمرو الثقفي ومن كان يعامل بالربا من غيرهم بل نتوب إلى الله فإنه لا يدان لنا يعني لا قوة لنا بحرب الله ورسوله ورضوا برؤوس أموالهم‏.‏ فشكا بنو المغيرة العسرة ومن كان عليه دين وقالوا‏:‏ أخرونا إلى أن تدرك الغلات فأبوا أن يؤخروهم فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرة‏}‏ يعني وإن كان الذي عليه الحق من غرمائكم معسراً والعسر نقيض اليسر وهو تعذر وجدان المال، وأعسر الرجل إذا أضاق ولم يجد ما يؤديه في دينه ‏{‏فنظرة‏}‏ أي فإمهال وتأخير ‏{‏إلى ميسرة‏}‏ أي إلى زمن اليسار وهو ضد الإعسار وهو جدان المال الذي يؤديه في دينه واختلفوا في حكم الآية وله الإنظار مختص بالربا أم هو عام في كل دين‏؟‏ على قولين‏:‏ القول الأول وهو قول ابن عباس وشريح والضحاك والسدي إن الآية في الربا‏.‏ وذكر عن شريح أن رجلاً خاصم رجلاً إليه فقضى عليه وأمر بحبسه فقال رجل‏:‏ كان عند شريح انه معسر والله تعالى يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة‏}‏ فقال شريح إنما ذاك في الربا وإن الله تعالى قال في كتابه ‏{‏إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل‏}‏ ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه‏.‏ والقول الثاني وهو قول مجاهد وجماعة من المفسرين أن حكم الآية عام في كل دين على معسر واحتجوا بأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرة‏}‏ ولم يقل ذا عسرة ليكون الحكم عاماً في جميع المعسرين ‏{‏وأن تصدقوا خير لكم‏}‏ يعني وإن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين فتتركوا رؤوس أموالكم للمعسر خير لكم، وإنما جاز هذا الحذف للعلم به لأنه قد جرى ذكر المعسرين وذكر رأس المال فعلم أن التصدق راجع إليهما ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ يعني أن التصدق خير لكم وأفضل لأن فيه الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى‏.‏

فصل في ثواب إنظار المعسر والوضع عنه وتشديد أمر الدين والأمر بقضائه

‏(‏م‏)‏ عن أبي قتادة أنه طلب غريماً له فتوارى عنه ثم وجده فقال‏:‏ إني معسر قال الله قال الله قال‏:‏ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من سره أن ينجيه الله من كرب القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه» ‏(‏م‏)‏ عن أبي اليسر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله» ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كان فيمن كان قبلكم تاجر يداين الناس فإن رأى معسراً قال لفتيانه‏:‏ تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه» وعن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه به عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء» أخرجه أبو داود ‏(‏خ‏)‏ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عز وجل عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله»، ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مطل الغني ظلم، زاد في رواية وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» ‏(‏ق‏)‏ عن كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى فقال‏:‏ يا كعب قلت‏:‏ لبيك يا رسول الله فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك فقال كعب‏:‏ قد فعلت يا رسول الله قال قم فاقضه‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ «كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال‏:‏ أعطوه فطلبوا سنة فلم يجدوا إلاّ سناً فوقها فقال‏:‏ أعطوه فقال‏:‏ أوفيتني وفاك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إن خيركم أحسنكم قضاء» وفي رواية أنه أغلظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقضاه حتى هم به بعض أصحابه فقال‏:‏ دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً ثم أمر له بأفضل من سنه «‏.‏ ‏(‏م‏)‏ عن قتادة الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏» أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال فقام رجل فقال‏:‏ يا رسول الله أرأيت أن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قلت قال أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلاّ الدين فإن جبريل قال لي ذلك «عن محمد بن جحش قال‏:‏» كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع يده على جبهته ثم قال‏:‏ سبحان الله ماذا نزل من التشديد فسكتنا وفزعنا‏.‏ فلما كان من الغد سألته يا رسول الله‏:‏ ما هذا التشديد الذي نزل فقال‏:‏ والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضي عنه دينه «أخرجه النسائي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏281‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏281‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واتقوا‏}‏ أي وخافوا ‏{‏يوماً ترجعون فيه إلى الله‏}‏ قرئ بفتح التاء أي تصيرون فيه إلى الله وقرئ بضم التاء وفتح الجيم أي تردون فيه إلى الله ‏{‏ثم توفى كل نفس ما كسبت‏}‏ يعني من خير أو شر ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ أي في ذلك اليوم‏.‏ وفي هذه الآية وعد شديد وزجر عظيم قال ابن عباس‏:‏ هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال جبريل ضعها على رأس مائتين وثمانين من سورة البقرة وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً وعشرين يوماً وقيل‏:‏ تسع ليال وقيل سبعاً ومات صلى الله عليه وسلم لليلتين خلتا من ربيع الأول في يوم الاثنين سنة إحدى عشرة من الهجرة‏.‏ وروى الشعبي عن ابن عباس أن آخر آية نزلت آية الربا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏282‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏282‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين‏}‏ قال ابن عباس لما حرم الربا أباح السلم وقال‏:‏ أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه‏.‏ وقوله ‏{‏إذا تداينتم‏}‏ أي تعاملتم بالدين أو داين بعضكم بعضاً والتداين تفاعل من الدين يقال داينته إذا عاملته بالدين وإنما قال بدين بعد قوله‏:‏ إذا تداينتم لأن المداينة قد تطلق على المجازاة وعلى المعطاة فقيده بالدين ليعرف المراد من اللفظ ويخلص أحد المعنين من الآخر‏.‏ وقيل إنما قال بدين ليرجع الضمير إليه في قوله‏:‏ فاكتبوه إذ لو لم يذكر ذلك لوجب أن يقال‏:‏ فاكتبوا الدين فلا يحسن النظم بذلك وقيل إنما ذكره تأكيداً ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ يعني إلى مجدة معلومة الأول والآخر مثل السنة والشهر ولا يجوز إلى غير مدة معلومة كما لو قال إلى الحصاد أو نحوه والأجل يلزم في الثمن في البيع وفي السلم حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قبل محل الأجل بخلاف القرض فإنه لا يلزم فيه الأجل عند أكثر أهل العلم‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في التمر العام والعامين فقال لهم‏:‏ «من أسلف في تمر ففي كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاكتبوه‏}‏ أي اكتبوا الدين الذي تداينتم به بيعاً كان ذلك أو سلماً أو قرضاً واختلفوا في هذه الكتابة فقيل‏:‏ هي واجبة وهو مذهب عطاء وابن جريج والنخعي واختاره محمد بن جرير الطبري وقيل الأمر محمول على الندب الاستحباب فإن ترك فلا بأس وهو قول جمهور العلماء وقيل بل كانت الكتابة والإشهاد والرهن فرضاً ثم نسخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي ائتمن أمانته‏}‏ وهو قول الحسن والشعبي والحكم بن عيينة ثم بين الله تعالى كيفية الكتابة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وليكتب بينكم كاتب‏}‏ أي ليكتب الدين بين الطالب والمطلوب كاتب ‏{‏بالعدل‏}‏ أي بالحق من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخيره قيل إن فائدة الكتابة هي حفظ المال من الجانبين لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه مقيد بالكتابة تعذر عليه طلب زيادة أو تقديم المطالبة قبل حلول الأجل، ومن عليه الدين إذا عرف ذلك تعذر عليه الجحود أو النقص من أصل الدين الذي عليه، فلما كانت هذه الفائدة من الكتابة أمر الله تعالى بها ‏{‏ولا يأب‏}‏ أي ولا يمتنع ‏{‏كاتب أن يكتب‏}‏ واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب وتحمل الشهادة على الشاهد فقيل بوجوبهما لأن ظاهر الكلام نهى عن الامتناع من الكتابة وإيجابها على كل كتاب فإذا طولب بالكتابة وتحمل الشهادة من هو من أهلهما وجب عليه ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ هو من فرض الكفاية وهو قول الشعبي فإن لم يوجد إلاّ واجد وجب عليه ذلك وقيل هو على الندب والاستحباب وذلك لأن الله تعالى لما علمه الكتابة وشرفه بها استحب له أن يكتب ليقضي حاجة أخيه المسلم ويشكر تلك النعمة التي أنعم الله بها عليه وقيل‏:‏ كانت الكتابة وتحمل الشهادة واجبتين على الكاتب والشاهد ثم نسخهما الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يضار كاتب ولا شهيد‏}‏ ‏{‏كما علمه الله‏}‏ أي كما شرعه الله وأمر به ‏{‏فليكتب‏}‏ وذلك أن يكتب بحيث لا يزيد ولا ينقص ويكتب ما يصلح أن يكون حجة عند الحاجة ولا يخص أحد الخصمين بالاحتياط له دون الآخر، وأن يكون كل واحد منهما آمناً من أبطال حقه، وأن يكون ما يكتبه متفقاً عليه عند العلماء، وأن يحترز من الألفاظ التي يقع النزاع فيها وهذه الأمور لا تحصل إلاّ لمن هو فقيه عالم باللغة ومذاهب العلماء‏.‏ ‏{‏وليملل الذي عليه الحق‏}‏ يعني أن المطلوب الذي عليه الحق يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه من الحق فيذكر قدره وجنسه وصفة الأجل ونحو ذلك‏.‏ والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد ‏{‏وليتق الله‏}‏ ربه يعني المملي ‏{‏ولا يبخس‏}‏ أي ولا ينقص ‏{‏منه‏}‏ أي من الحق الذي وجب ‏{‏شيئاً فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً‏}‏ أي جاهلاً بالإملاء وقيل هو الطفل الصغير‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ السفيه هو المبذر المفسد لماله ودينه ‏{‏أو ضعيفاً‏}‏ يعني شيخاً كبيراً وقيل‏:‏ هو ضعيف العقل لعته أو جنون ‏{‏أو لا يستطيع أن يمل هو‏}‏ يعني لخرس أو عمى أو عجمة في كلامه أو حبس أو غيبة لا يمكنه الحضور عند الكاتب أو يجهل بماله، وعليه فهؤلاء كلهم لا يصح إقرارهم فلا بد من أن يقوم غيرهم مقامهم وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليملل وليه‏}‏ يعني ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة المحجور عليهم لأنه مقامه في صحة الإقرار‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أراد بالولي صاحب الدين يعني إن عجز الذي عليه الحق عن الإملاء فليملل صاحب الحق لأنه أعلم بحقه ‏{‏بالعدل‏}‏ أي بالصدق ‏{‏واستشهدوا شهيدين‏}‏ يعني وأشهدوا على حقوقكم شهيدين لأن المقصود من الكتابة هو الإشهاد ‏{‏من رجالكم‏}‏ يعني من أهل ملتكم يعني من المسلمين الأحرار دون العبيد والصبيان وهذا قول أكثر أهل العلم‏.‏ وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد وحجة هذا القول أن قوله من رجالكم عام يتناول العبيد وغيرهم وذلك لأن عقل الإنسان ودينه وعدالته تمنعه من الكذب، فإذا اجتمعت هذه الشرائط فيه كانت شهادته معتبرة‏.‏ وحجة الجمهور العلماء ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا فهذا نص يقتضي أن من تحمل شهادة وجب عليه الأداء إذا ما طولب بها والعبد ليس كذلك فإن السيد إذا لم يأذن له في ذلك حرم عليه الذهاب إلى الشهادة فوجب أن يكون العبد من أهل الشهادة ‏{‏فإن لم يكونا رجلين‏}‏ أي فإن لم يكن الشاهدان رجلين ‏{‏فرجل وامرأتان‏}‏ أي فليشهد رجل وامرأتان، وأجمع الفقهاء على أن شهادة النساء مع الرجال جائزة في الأموال فيثبت الحق بشهادة رجل وامرأتين واختلفوا في غير الأموال فذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي إلى أنه يجوز شهادة النساء مع الرجال في سائر الحقوق غير العقوبات، وذهب جماعة إلى أن غير المال لا يثبت إلاّ برجلين عدلين، وذهب الشافعي إلى أن ما يطلع عليه النساء غالباً كالولادة والرضاع والكبارة والثيوبة ونحوها تجوز شهادة رجل وامرأتين أو شهادة أربع نسوة‏.‏

واتفقوا على أن شهادة النساء غير جائزة ولا مقبولة في العقوبات والحدود، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ممن ترضون من الشهداء‏}‏ يعني من كان مرضياً عندكم في دينه وأمانته والشرائط المعتبرة في العدالة‏.‏ وقبول الشهادة عشرة وهي‏:‏ الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة، وأن لا يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع عنه بها مضرة، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلظ والسهو، وأن لا يكون بينه وبين من شهد من عليه عداوة فشهادة الكافر مردودة لأن الكذاب لا تقبل شهادته‏.‏ فالذي يكذب على الله أولى بأن ترد شهادته وجوز بعض أهل الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ولا تقبل شهادة العبيد وأجازها ابن شريح وابن سيرين وهو قول أنس ولا قول للمجنون معتبر على تصح شهادته‏.‏ ولا تجوز شهادة الصبيان وسئل ابن عباس عن ذلك فقال‏:‏ لا يجوز لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏ممن ترضون من الشهداء‏}‏ والعدالة شرط وهو أن لا يكون الشاهد مقيماً على الكبائر مصراً على الصغائر والمروءة شرط وهي ما تتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء وهي حسن الهباة والسيرة والعشرة والصناعة، فإن كان الرجل يظهر في نفسه شيئاً مما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب علم بذلك قلة مروءته وترد شهادته وانتفاء التهمة شرط فلا تقبل شهادة العدو على عدوه وإن كان مقبول الشهادة على غيره، لأنه متهم في حق عدوه لا في حق غيره ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وتقبل شهادته عليهما ولا تقبل شهادة من يجر بشهادته إلى نفسه نفعاً عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حداً ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرب شهادة ولا القانع أهل البيت لهم ولا ظنين في ولاء ولا قرابة» قال الفزاري‏:‏ القانع التابع، أخرجه الترمذي‏.‏ قوله‏:‏ لا تجوز شهادة خائن أراد بالخيانة الخيانة في الدين والمال والأمانة فإن من ضيع شيئاً من أوامر الله أو ارتكب شيئاً مما نهى الله عنه لا يكون عدلاً‏.‏

والغمر بكسر الغين الحقد والقانع هو السائل المستطعم وقيل‏:‏ المنقطع إلى قوم يخدمهم فترد شهادته للتهمة في جر النفع إلى نفسه لأن التابع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم والظنين بكسر الظاء المتهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تضل إحداهما‏}‏ أي تنسى إحدى المرأتين ‏{‏فتذكر إحداهما الأخرى‏}‏ لأن الغالب على طباع النساء النسيان فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى لو نسيت إحداهما تذكرهما الأخرى فتقول حضرنا مجلس كذا وسمعنا كذا فيحصل بذلك الذكرى‏.‏ وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال هو من الذكر أي تجعل إحداهما الأخرى ذكراً والمعنى أن شهادتهما تصيرا كشهادة ذكر، والقول الأول أصح لأنه معطوف على تضل وهو النسيان‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يأب الشهادة إذا ما دعوا‏}‏ يعني إذا دعوا لتحمل الشهادة وسماهم شهداء لأنهم يكونون شهداء وهذا أمر إيجاب عند بعضهم‏.‏ وقال قوم‏:‏ يجب إذا لم يكن غيره فإن كان غيره فهو مخير، وقيل‏:‏ هو أمر ندب فهو مخير في جميع الأحوال‏.‏ وقال بعضهم هذا في إقامة الشهادة وأدائها، ومعنى الآية ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا الأداء الشهادة التي تحملوها‏.‏ وقيل‏:‏ الآية في الأمرين جميعاً يعني في التحمل والأداء والإقامة إذا كان عارفاً‏.‏ وقيل الشاهد بالخيار ما لم يشهد فإذا شهد وجب عليه الأداء ‏{‏ولا تسأموا‏}‏ أي ولا تملوا ولا تضجروا ‏{‏أن تكتبوه‏}‏ الضمير راجع إلى الحق أو الدين ‏{‏صغيراً‏}‏ كان ‏{‏أو كبيراً‏}‏ يعني قليلاً كان الحق أو الدين أو كثيراً ‏{‏إلى أجله‏}‏ يعني إلى محل الحق والدين ‏{‏ذلكم‏}‏ يعني ذلك الكتاب ‏{‏أقسط عند الله‏}‏ يعني أعدل عند الله لأنه أمر به واتباع أمره وأعدل من تركه‏.‏ ‏{‏وأقوم للشهادة‏}‏ يعني أن الكتابة تذكر الشهود ‏{‏وأدنى ألا ترتابوا‏}‏ يعني وأحرى وأقرب إلى أن لا تشكوا في الشهادة ‏{‏إلاّ أن تكون تجارة حاضرة‏}‏ أي إلاّ أن تقع تجارة حاضرة يداً بيد ‏{‏تديرونها بينكم‏}‏ أي فيما بينكم ليس فيها أجل ‏{‏فليس عليكم جناح‏}‏ أي لا ضرر عليكم ‏{‏أن لا تكتبوها‏}‏ يعني التجارة الحاضرة، والتجارة تقليب الأموال وتصريفها لطلب النماء والزيادة بالأرباح، وإنما رخص الله تعالى في الكتابة والإشهاد في هذا النوع من التجارة لكثرة ما يجري بين الناس، فلو كلفوا فيها الكتابة والإشهاد لشق ذلك عليهم، ولأنه إذا أخذ كل واحد من المتبايعين حقه من صاحبه في ذلك المجلس لم يكن هناك خوف التجاحد فلا حاجة إلى الكتابة والإشهاد ‏{‏وأشهدوا إذا تبايعتم‏}‏ يعني فيما جرت العادة بالإشهاد فيه‏.‏ واختلفوا في هذا الأمر فقيل هو للوجوب فيجب أن يشهد في صغير الحق وكبيره ونقده ونسيئته وقيل‏:‏ هو أمر ندب واستحباب وهو قول الجمهور‏.‏ وقيل إنه منسوخ بقوله‏:‏ ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي ائتمن أمانته‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يضار كاتب ولا شهيد‏}‏ هذا نهي عن المضارة وأصله يضارر بكسر الراء الأولى ومعناه لا يضار الكاتب فيأبى أن يكتب والشاهد فيأبى أن يشهد أو يضار الكاتب فيزيد أو ينقص أو يحرف ما أملي عليه فيضر صاحب الحق أو من عليه الحق، وكذلك الشاهد وقيل‏:‏ أصله يضارر بفتح الراء الأولى ومعناه أن يدعو الرجل الكاتب والشاهد وهما مشغولان فيقولان نحن على شغل مهم فاطلب غيرنا فيقول الداعي‏:‏ إن الله أمركما أن تجيبا إذا دعيتما ويلح عليهما فيشغلهما عن حاجتهما فنهى عن مضارتهما، وأمر أن يطلب غيرهما ‏{‏وإن تفعلوا‏}‏ يعني ما نهيتم عنه من الضرار ‏{‏فإنه فسوق بكم‏}‏ أي معصية وخروج عن الأمر‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي خافوا الله واحذروا فيما نهاكم عنه من المضارة وغيرها ‏{‏ويعلمكم الله‏}‏ يعني ما يكون إرشاداً لكم في أمر الدنيا، كما يعلمكم ما يكون إرشاداً لكم في أمر الدين ‏{‏والله بكل شيء عليم‏}‏ يعني أن الله تعالى عليم بجميع مصالح عباده لا يخفى عليه شيء من ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏283‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏283‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن كنتم على سفر‏}‏ أي في سفر ‏{‏ولم تجدوا كاتباً‏}‏ يعني ولم تجدوا آلات الكتابة ‏{‏فرهن‏}‏ جمع رهن وقرئ فرهان ‏{‏مقبوضة‏}‏ يعني فارتهنوا ممن تدينونه رهوناً مقبوضة لتكون وثيقة لكم بأموالكم، وأصل الرهن الدوام يقال‏:‏ رهن الشيء إذا دام وثبت، والرهن ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه ديناً‏.‏ فإن قلت‏:‏ لم شرط الارتهان في السفر مع عدم الكاتب ولا يختص به سفر دون حضر وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي على طعام أخذه إلى أجل، ولم يكن ذلك في سفر ولا عند عدم كاتب‏.‏ قلت ليس الغرض تجويز الارتهان في السفر خاصة دون الحضر، ولكن لما كان السفر مظنة لإعواز الكاتب‏.‏ والإشهاد أمر الله تعالى به على سبيل الإرشاد إلى حفظ الأموال لمن كان على سفر بأن يقيم التوثيق بالارتهان مقام الكتابة والإشهاد‏.‏ واتفق العلماء على جواز الرهن في الحضر والسفر جميعاً ومع وجود الكاتب وعدمه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا يجوز إلاّ في السفر عند عدم الكاتب لظاهر الآية وأجاب الجمهور عن ظاهر الآية أن الكلام إنما خرج على الأغلب لا علي سبيل الشرط‏.‏ واتفق العلماء على أن الرهن لا يتم إلاّ بالقبض وهو وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فرهن مقبوضة‏}‏ يعني ارتهنوا واقبضوا، لأن المقصود من الرهن هو استيثاق جانب صاحب الحق وذلك لا يتم إلاّ بالقبض فلو رهن ولم يسلم لم يجبر الراهن على التسليم، فإذا سلم الرهن لزم من جهته حتى لا يجوز له أن يسترجعه ما دام شيء من الحق باقياً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضاً‏}‏ يعني فإن كان الذي عليه الحق أميناً عند صاحب الحق ولم يرتهن منه شيئاً لحسن ظنه به ‏{‏فليؤد الذي ائتمن أمانته‏}‏ يعني فليؤد المديون الذي عليه الحق الذي كان أميناً في ظن الدائن الذي هو صاحب الحق أمانته يعني حقه سمي الدين أمانة وإن كان مضموناً لائتمانه عليه حيث أمن من جحوده فلم يكتب ولم يشهد عليه ولم يأخذ منه رهناً حث المديون على أن يكون عند ظن الدائن الذي ائتمنه وأن يؤدي إليه حقه الذي ائتمنه عليه ولم يرتهن منه عليه شيئاً ثم زاد ذلك تأكيداً بقوله‏:‏ ‏{‏وليتق الله ربه‏}‏ أي المديون في أداء الحق عند حلول الأجل من غير مماطلة ولا جحود بل يعامله المعاملة الحسنة كا أحسن ظنه فيه، ثم رجع إلى خطاب الشهود فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكتموا الشهادة‏}‏ يعني إذا دعيتم إلى إقامتها وأدائها وذلك لأن الشاهد متى امتنع من إقامة الشهادة وكتمها فقد أبطل بذلك حق صاحب الحق فلهذا نهى عن كتمان الشهادة وبالغ في الوعيد عليه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكتمها‏}‏ يعني الشهادة ‏{‏فإنه آثم قلبه‏}‏ أي فاجر قلبه والآثم الفاجر، وإنما أضيف الإثم إلى القلب لأن الأفعال من الدواعي والصوارف إنما تحدث في القلب فلما كان الأمر كذلك أضيف الإثم إلى القلب قيل‏:‏ ما أوعد الله على شيء كإيعاده عن كتمان الشهادة فإنه تعالى قال ‏{‏فإنه آثم قلبه‏}‏ وأراد به مسخ القلب نعوذ بالله من ذلك ‏{‏والله بما تعملون عليم‏}‏ يعني من بيان الشهادة وكتمانها ففيه وعيد وتحذير لمن كتم ولم يظهرها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏284‏]‏

‏{‏لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏284‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ ملكاً وأهلها له عبيد وهو مالكهم ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله‏}‏ وهذا يتناول حديث النفس والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب ولا يتمكن من دفعها، والمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق‏:‏ وأجيب عن هذا بأن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إظهاره إلى الوجود، فهذا مما يؤاخذ الإنسان به‏.‏ والقسم الثاني ما يخطر بالبال ولا يمكن دفعه عن نفسه لكن يكره ولا يعزم على فعله ولا إظهار إلى الوجود فهذا معفو عنه بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏}‏ وقال قوم‏:‏ إن هذه الاية خاصة ثم اختلفوا في وجه تخصيصها فقال بعضهم‏:‏ هي متصلة بالآية التي قبلها وإنما نزلت في كتمان الشهادة ومعنى الآية ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم‏}‏ أيها الشهود من كتمان الشهادة أي تخفوه أي تخفوا الكتمان يحاسبكم به الله وهذا ضعيف، لأن اللفظ هام وإن كان وارداً عقيب قضية فلم يلزم صرفه إليها‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن الآية نزلت فيمن يتولى الكافرين من المؤمنين والمعنى‏:‏ وإن تبدوا أي تظهروا ما في أنفسكم يعني من ولاية الكفار أو تخفوه فلا تظهروه يحاسبكم به الله‏.‏ وذهب أكثر العلماء إلى أن الآية عامة ثم اختلفوا فقال قوم‏:‏ هي منسوخة بالآية التي بعدها ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال‏:‏ لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏لله ما في السموات وما في الأرض، وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه‏}‏ الآية‏.‏ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا‏:‏ أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الاية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصبنا بل قوم سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في أثرها‏:‏ ‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير‏}‏ فلما فعلوا ذلك نسخها الله عز وجل فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏}‏ قال نعم‏:‏ ‏{‏ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا‏}‏

قال نعم ربنا‏:‏ ‏{‏ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏}‏ قال نعم‏:‏ ‏{‏واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين‏}‏ قال نعم أخرجه مسلم وله عن ابن عباس نحوه وفيه قد فعلت بدل نعم ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله تعالى تجاوز لأمتي ماحدثت به أنفسها ما لم يعلموا به أو يتكلموا به وفي رواية ما وسوست به صدورها» وقال قوم‏:‏ إن الآية غير منسوخة لأن النسخ لا يرد إلاّ على الأمر والنهي ولا يرد على الإخبار‏.‏ وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يحاسبكم به الله‏}‏ خبر فلا يرد عليه النسخ ثم اختلفوا في تأويلها فقال قوم‏:‏ قد أثبت الله تعالى للقلب كسباً فقال‏:‏ بما كسبت قلوبكم وليس لله عبد أسر عملاً أو أعلنه من حركة جارحة أو همة قلب إلاّ يعلمه الله ثم يخبره به ويحاسبه عليه ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وقال آخرون في معنى الاية‏:‏ إن الله تعالى يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالكم وأخفوه وعاقبهم عليه غير أن معاقبتهم على ما أخفوه أخف مما لم يعملوا به وهو ما يحدث لهم في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها وهذا قول عائشة عن أمية إنها سألت عائشة عن قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله‏}‏ وعن قوله ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ فقالت‏:‏ ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة حتى البضاعة يضعها في يد قميصه فيفقدها فيفزع لها، حتى أن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير» أخرجه الترمذي، وقال‏:‏ حديث حسن غريب‏.‏ وله عن انس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عليه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة» وقال قوم في معنى الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم يعني مما عزمتم عليه أو تخفوه أي ولا تبدوه وأنتم عازمون عليه يحاسبكم به الله‏.‏ فأما حديث النفس مما لم تعزموا عليه فإن ذلك مما لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها ولا يؤاخذ به‏.‏ قال عبدالله بن المبارك‏:‏ قلت لسفيان‏:‏ أيؤاخذ العبد بالهمة‏؟‏ فقال‏:‏ إذا كانت عزماً أخذ بها وقيل معنى المحاسبة الإخبار والتعريف فيرجع معنى هذه المحاسبة إلى كونه تعالى عالماً بكل ما في الضمائر والسرائر مما ظهر وخفي ومعنى الآية‏:‏ وإن تبدوا ما في أنفسكم فتعملوا به أو تخفوه مما أضمرتم ونويتم يحاسبكم به الله أي يخبركم به ويعرفكم إياه، ثم يغفر للمؤمنين إظهاراً لفضله ويعذب الكافرين إظهاراً لعدله‏.‏

يروى عن ابن عباس ويدل عليه أنه قال‏:‏ يحاسبكم به الله ولم يقل‏:‏ يؤاخذكم به لأن المحاسبة غير المؤاخذة ويدل عليه أيضاً ما روي عن صفوان بن محرز المازني قال‏:‏ بينما ابن عمر يطوف إذ عرض له رجل فقال‏:‏ يا أبا عبدالرحمن أخبرني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «يدني المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا وكذا فيقول‏:‏ أعرف رب أعرف مرتين فيقول الله‏:‏ سترتها عليك في الدينا وأنا أغفرها لك اليوم ثم تطوى صحيفة حسابه، وأما الآخرون وهم الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يغفر لمن يشاء الذنب العظيم ويعذب من يشاء على الذنب الصغير لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ يعني أنه تعالى قادر على كل شيء كامل القدرة فيغفر للمؤمنين فضلاً ويعذب الكافرين عدلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏285‏]‏

‏{‏آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏285‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه‏}‏ عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل من شيء فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ‏{‏آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون‏}‏ الآية ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏}‏ قال‏:‏ قد فعلت ربنا ‏{‏ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا‏}‏ قال‏:‏ قد فعلت ربنا ‏{‏ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين‏}‏ قال قد فعلت أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لما ذكر الله في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصوم والحج والطلاق والإيلاء والحيض والجهاد وأقاصيص الأنبياء وما ذكر من كلام الحكماء ختم السورة بذكر تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بجميع ذلك ومعنى آمن الرسول صدق الرسول يعني محمداً صلى الله عليه وسلم والمعنى صدق الرسول أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام منزل من عند الله عز وجل‏:‏ ‏{‏والمؤمنون‏}‏ أي وصدق المؤمنون بذلك أيضاً ‏{‏كل‏}‏ أي كل واحد من المؤمنين ‏{‏آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله‏}‏ فهذه أربع مراتب من أصول الإيمان وضرورياته، فأما الإيمان بالله فهو أن يؤمن بأن الله واحد أحد لا شريك له ولا نظير له ويؤمن بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأنه حي عالم قادر على كل شيء، وأما الإيمان بالملائكة فهو أن يؤمن بوجودهم وأنهم معصومون مطهرون وأنهم السفرة الكرام البررة وأنهم الوسائط بين الله تعالى وبين رسله‏.‏ وأما الإيمان بكتبه فهو أن يؤمن بأن الكتب المنزلة من عند الله هي وحي الله إلى رسله، وأنها حق وصدق من عند الله بغير شك ولا ارتياب، وأن القرآن لم يحرف ولم يبدل ولم يغير، وأنه مشتمل على المحكم والمتشابه، وأن محكمه يكشف عن متشابهه‏.‏ وأما الإيمان بالرسل فهو أن يؤمن بأنهم رسل الله إلى عباده وأمناؤه على وحيه، وأنهم معصومون وأنهم أفضل الخلق، وان بعضهم أفضل من بعض وقد أنكر بعضهم ذلك وتمسك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا نفرق بين أحد من رسله‏}‏‏.‏ وأجيب عنه بأن المقصود من هذا الكلام شيء آخر وهو إثبات نبوة الأنبياء والرد على اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوة موسى وعيسى وينكرون بنوة محمد صلى الله عليه وسلم وقد ثبت بالنص الصريح تفضيل بعض الأنبياء على بعض بقوله‏:‏ ‏{‏تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض‏}‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏لا نفرق بين أحد من رسله‏}‏ فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى بل نؤمن بجميع رسله، وفي الآية إضمار تقديره وقالوا‏:‏ يعني المؤمنين لا نفرق بين أحد من رسله ‏{‏وقالوا سمعنا وأطعنا‏}‏ يعني سمعنا قولك وأطعنا أمرك، والمعنى قال المؤمنون‏:‏ سمعنا قول ربنا فيما أمرنا به، وأطعناه فيما ألزمنا من فرائضه، واستعبدنا به من طاعته، وسلمنا له فيما أمرنا به ونهانا عنه، ‏{‏غفرانك ربنا‏}‏ أي نسألك غفرانك ربنا، أو يكون المعنى اغفر لنا غفرانك ربنا ‏{‏وإليك المصير‏}‏ يعني قالوا، إليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا فاغفر ذنوبنا‏.‏ روى البغوي بغير سند عن حكيم بن جابر‏:‏ «أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله عز وجل قد أثنى عليك وعلى أمتك فسل تعطه»‏.‏ قال بتلقين الله تعالى غفرانك ربنا وإليك المصير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏286‏]‏

‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏286‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها‏}‏ قيل‏:‏ يحتمل أن يكون ابتداء خبر من الله تعالى أن يكون حكاية عن المؤمنين وفيه إضمار كأنه قال الله تعالى عنهم وقالوا‏:‏ لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها يعني طاقتها والوسع اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه‏.‏ قال ابن عباس وأكثر المفسرين إن هذه الآية نسخت حديث النفس والوسوسة وذلك أنه لما نزل وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ضج المؤمنون منها وقالوا‏:‏ يا رسول الله نتوب من عمل اليد والرجل واللسان فكيف نتوب من الوسوسة وحديث النفس‏؟‏ فنزلت هذا الآية‏.‏ والمعنى أنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة وحديث النفس‏؟‏ كان ذلك ما لم تطيقوه وقال ابن عباس في رواية عنه‏:‏ هم المؤمنون خاصة وسع الله عليهم أمر دينهم ولم يكلفهم ما لا يستطيعون‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏ وسئل سفيان بن عيينة عن قوله‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها‏}‏ قال‏:‏ إلاّ يسرها ولم يكلفها فوق طاقتها وهذا قول حسن، لأن الوسع ما دون الطاقة وقيل معناه أن الله تعالى لا يكلف نفساً إلاّ وسعها فلا يتعبدها بما لا تطيق‏.‏ ‏{‏لها ما كسبت‏}‏ يعني للنفس ما عملت من الخير فلها أجره وثوابه‏.‏

‏{‏وعليها ما اكتسبت‏}‏ يعني من الشر عليها وزره وعقابه وقيل في معنى الآية‏:‏ إن الله تعالى لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ربنا لا تؤاخذنا‏}‏ وهذا تعليم من الله تعالى عباده المؤمنين كيف يدعونه ومنعاه قولوا‏:‏ ربنا لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا وإنما جاء بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد لأن المسيء قد أمكن من نفسه وطرق السبيل إليها بفعله فكأنه أعدى عليه من يعاقبه بذنبه ويأخذه به‏.‏ ‏{‏إن نسينا أو أخطأنا‏}‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما أنه من النسيان الذي هو السهو وهو ضد التذكر قيل‏:‏ كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً مما أمروا به أو اخطؤوا عجلت لهم العقوبة فيحرم عليهم شيء مما كان حلالاً لهم من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك‏.‏ فإن قلت‏:‏ أليس فعل الناسي في محل العفو بدليل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فإذا كان النسيان في محل العفو قطعاً فما معنى العفو عنه بالدعاء‏؟‏ قلت‏:‏ الجواب عنه من وجوه‏:‏ الأول‏:‏ أن النسيان على ضربين‏:‏ أما الأول‏:‏ فهو ما كان من العبد على وجه التضييع والتفريط، وهو ترك ما أمر بفعله كمن رأى على ثوبه دماً فأخر إزالته، عنه ثم نسي فصلى فيه، وهو على ثوبه فيعد مقصراً إذ كان يلزمه المبادرة إلى إزالته أما إذا لم يره فيعذر فيه وكذا لو ترك ما أمر بفعله على وجه السهو أو ارتكب منهياً عنه من غير قصد إليه كأكل آدم عليه السلام من الشجرة التي نهى عنها على وجه النسيان من غير عزم على المخالفة كما قال تعالى‏:‏

‏{‏ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً‏}‏ فمثل هذا يجب أن يسأل الله تعالى أن يعفو له عن ذلك‏.‏ وأما الضرب الثاني فهو كمن ترك صلاة ثم نسيها أو ترك دراسة القرآن بعد أن حفظه حتى نسيه فهذا لا يعذر بنسيانه وسهوه لأنه فرط فثبت أن النسيان على قسمين وإذا كان كذلك صح طلب العفو الغفران عن النسيان‏.‏ الوجه الثاني من الجواب أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا من المتقين لله حق تقانة فإن صدر منهم ما لا ينبغي فلا يكون إلا على سبيل السهو والنسيان فطلبهم العفو والغفران لما يقع منهم على سبيل السهو والنسيان إنما هو لشدة خوفهم وتقواهم‏.‏ الوجه الثالث أن المقصود من هذا الدعاء هو التضرع والتذلل لله تعالى‏.‏ وأما الخطأ في قوله أو أخطأنا فعلى وجهين أيضاً‏:‏ أحدهما أن يأتي العبد ما نهي عنه بقصد وإرادة فذلك خطأ منه وهو به مأخوذ فيحسن طلب العفو والغفران لذلك الفعل الذي ارتكبه‏.‏ الوجه الثاني أن يكون الخطأ على سبيل الجهل والظن لأن له فعله كمن ظن أن وقت الصلاة لم يدخل وهو في يوم غيم فأخرها حتى خرج وقتها فهذا من الخطأ الموضوع عن العبد‏.‏ لكن طلب العفو والغفران لسبب تقصيره وقوله‏:‏ ‏{‏ربنا ولا تحمل علينا إصراً‏}‏ يعني عهداً ثقيلاً وميثاقاً غليظاً فلا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه وتركه ‏{‏كما حملته على الذين من قبلنا‏}‏ يعني اليهود فلم يقوموا به فعذبتهم عليه، وقيل معناه ولا تشدد علينا كما شددت على اليهود من قبلنا وذلك أن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم زكاة ومن أصاب منهم ثوبه نجاسة قطعها ومن أصاب ذنباً أصبح وذنبه مكتوب على بابه‏.‏ ونحو هذا من الأثقال والآصار التي كتبت عليهم فسأل المسلمون ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات والعهود الثقيلة وقد أجاب الله تعالى دعاءهم برحمته وخفف عنهم بفضله وكرمه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏ قيل الإصر ذنب لا توبة له فسأل المؤمنون ربهم أن يعصمهم من مثله ‏{‏ربّنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏}‏ يعني لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به لثقل حمله علينا وتكليف ما لا يطاق على وجهين‏:‏ أحدهما ما ليس في قدرة العبد احتماله كتكليف الأعمى النظر والزمن العدو فهذا النوع من التكليف الذي لا يكلف الله به عبده بحال‏.‏

الوجه الثاني من تكليف ما لا يطاق هو ما في قدره العبد احتماله مع المشقة الشديدة والكلفة العظيمة كتكليف الأعمال الشاقة والفرائس الثقيلة كما كان في ابتداء الإسلام صلاة الليل واجبة ونحوه‏.‏ فهذا الذي سأل المؤمنون ربهم لا يحملهم ما لا طاقة لهم به واستدل بهذه الآية من يقول إن تكليف ما لا يطاق جائر إذ لم يكن جائزاً لما حسن طلب تخفيفه بالدعاء من الله تعالى‏.‏ وقيل في قوله ولا تحملنا ما لما طاقة لنا به هو حديث النفس والوسوسة وقيل هيجان الغلمة وقيل هو الحب وقيل هو شماتة الأعداء وقيل‏:‏ هو الفرقة والقطيعة وقيل هو مسخ القردة والخنازير نعوذ بالله من ذلك كله ‏{‏واعف عنا‏}‏ أي تجاوز عن ذنوبنا وامحها عنا ‏{‏واغفر لنا‏}‏ أي استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا ‏{‏وارحمنا‏}‏ أي تغمدنا برحمة تنجينا بها من عقابك فإنه ليس بناج من عقابك إلاّ من رحمته‏.‏ وقيل‏:‏ إنا لا ننال العمل بطاعتك ولا نترك معصيتك إلاّ برحمتك، وأصل الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وإذا وصف بها الله تعالى فليس يراد بها إلاّ الإحسان المجرد والتفضل على العباد دون الرقة‏.‏ وقيل‏:‏ إن طلب العفو هو أن يسقط عنه عقاب ذنوبه، وطلب المغفرة هو أن يستر عليه صوناً له من الفضيحة كأن العبد يقول‏:‏ أطلب منك العفو وإذا عفوت عني فاستره علي فإذا عفا الله تعالى عن العبد وستره طلب الرحمة التي هي الإنعام والإحسان ليفوز بالنعيم والثواب ‏{‏أنت مولانا‏}‏ أي ناصرنا وحافظنا وولينا ومتولي امورنا ‏{‏فانصرنا على القوم الكافرين‏}‏ يعني الجاحدين الذين عبدوا غيرك وجحدوا وحدانيتك‏.‏ قال ابن عباس في قوله غفرانك ربنا قال قد غفرت لكم‏.‏ وفي قوله‏:‏ لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال لا أؤاخذكم ربنا ولا تحمل علينا إصراً قال‏:‏ لا أحمل عليكم ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏.‏ قال‏:‏ لا أحملكم واعف عنا، واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين‏.‏ قال قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين‏.‏ كان معاذ إذا ختم سورة البقرة قال آمين‏.‏ ‏(‏م‏)‏ عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها‏.‏ إليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها قال‏:‏ ‏{‏إذ يغشى السدرة ما يغشى‏}‏ قال فراش من ذهب قال فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً أعطي الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً من المقحمات‏.‏ المقحمات‏:‏ الذنوب العظام التي تولج مرتكبها النار وأصل الاقتحام الولوج‏.‏

‏(‏ق‏)‏ عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه معناه كفتاه من كل ما يحذر من كل هامة وشيطان فلا يقربه تلك الليلة وقيل كفتاه عن قيام اليل» ‏(‏م‏)‏ عن ابن عباس قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده جبريل عليه السلام إذ سمع نقيضاً من فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال‏:‏ هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلاّ فنزل منه ملك فقال‏:‏ هذا ملك نزل من السماء إلى الأرض لم ينزل قط إلاّ اليوم فسلم، وقال‏:‏ أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلاّ أعطيته عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله كتب لنا كتاباً قيل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام أنزل فيه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان» أخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث غريب آخر تفسير سورة البقرة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏

سورة آل عمران

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الم الله لا إله إلاّ هو الحي القيوم‏}‏ قال المفسرون‏:‏ نزلت هذه الآية في وفد نجران وكانوا ستين راكباً قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم وهم العاقب واسمه عبدالمسيح وهو أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلاّ عن رأيه، والسيد واسمه الأيهم وهو ثمالهم القائم بمالهم وصاحب رحلهم الذي يقوم بأمر طعامهم وشرابهم وأبو حارثة بن علقمة وهو أسقفهم وحبرهم وكان ملوك الروم يكرمونه لما بلغهم عن علمه واجتهاده في دينه فدخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي العصر وعليهم ثياب الحبرات جبب وأردية يقول من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأينا وفداً مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم فصلوا إلى المشرق فلما فرغوا كلم السيد والعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلما قالا‏:‏ قد أسلمنا قبلك‏.‏ قال كذبتما يمنعكما من الإسلام دعواكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير، قال إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه وخاصموه جميعاً في عيسى فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلاّ وهو يشبه أباه قالوا بلى قال‏:‏ ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب قالوا‏:‏ بلى قال ألستم على كل شيء يحفظه ويرزقه‏.‏ قالوا بلى قال‏:‏ فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً قالوا‏:‏ لا قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏.‏ قالوا بلى قال فهل يعلم عيسى من ذلك إلاّ ما علم قالوا لا‏.‏ قال‏:‏ ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف يشاء وربنا لا يأكل ولا يشرب قالوا‏:‏ بلى قال‏:‏ بلى قال ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لايأكل ولا يشرب قالوا‏:‏ بلى قال‏:‏ بلى قال ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث‏.‏ قالوا‏:‏ بلى قال‏:‏ فيكف يكون إلهاً كما زعمتم فسكتوا‏.‏ فأنزل الله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها زاد بعضهم‏.‏ فقالوا يا محمد ألست تزعم أن عيسى كلمة الله وروح منه قال بلى قالوا حسبنا ثم أبوا إلاّ جحوداً فأنزل الله رداً عليهم ‏{‏الم الله لا إله إلاّ هو‏}‏ يعني إن كانت منازعتكم يا معشر النصارى في معرفة الإله فهو الله الذي لا إله إلاّ هو فكيف تثبتون له ولداً فبين تعالى أن أحداً لا يستحق العبادة سواه لأنه الواحد لأحد ليس معه إله ولا له ولد ثم أتبع ذلك بما يجري مجرى الدلالة عليه فقام تعالى‏:‏ ‏{‏الحي القيوم‏}‏ أما الحي في صفة الله تعالى فهو الدائم الباقي الذي لا يصح عليه الموت‏.‏ وأما القيوم فهو القائم بذاته والقائم بتدبير الخلق ومصالحهم فيم يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 6‏]‏

‏{‏نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏3‏)‏ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏4‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏5‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏نزل عليك الكتاب‏}‏ يعني القرآن ‏{‏بالحق‏}‏ أي بالصدق والعدل ‏{‏مصدقاً لم بين يديه‏}‏ يعني لما قبله من الكتب في التوحيد والنبوات والأخبار وبعض الشرائع‏.‏ وقوله ‏{‏لما بين يديه‏}‏ من مجاز الكلام وذلك أن ما بين يديه فهو أمامه فقيل لكل شيء تقدم على الشيء هو بين يديه لغاية ظهوره واشتهاره ‏{‏وأنزل التوراة والإنجيل من قبل‏}‏ أي من قبل القرآن‏.‏ فإن قلت لم قيل نزل الكتاب وأنزل التوراة والإنجيل‏.‏ قلت لأن القرآن نزل منجماً مفصلاً في أوقات كثيرة ونزل هو للتكثير وأنزل التوراة والإنجيل‏.‏ جملة واحدة ‏{‏هدى للناس‏}‏ يعني أن إنزال التوراة والإنجيل قبل القرآن كان هدى للناس‏.‏ قلت إنما وصف القرآن بأنه هدى للمتقين لأنهم هم الذين انتفعوا به وتعبوه ووصف هنا التوراة والإنجيل بأنهما هدى للناس لأن المناظرة كانت مع مع نصارى نجران وهم يعتقدون صحة التوراة والإنجيل فلهذا السبب قال هنا ‏{‏هدى للناس‏}‏ وقيل إن قوله هدى للناس يعود إلى الكتب الثلاثة يعني القرآن المتقدم ذكره والتوراة والإنجيل وإنما وصف هذه الكتب بأنها هدى للناس لما فيها من الشرائع والأحكام ‏{‏وأنزل الفرقان‏}‏ يعني الفارق بين الحق والباطل قيل أراد به القرآن وإنما أعاد ذكره تعظيماً لشأنه ومد حاله لكونه فارقاً بين الحق والباطل وقيل إنما أعاد ذكره ليبين أنه تعالى أنزله بعد التوراة والإنجيل ليجعله فارقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى في أمر عيسى عليه السلام وقيل المراد به الكتب الثلاثة لأنها كلها هدى للناس ومفرقة بين الحلال والحرام والحق والباطل‏.‏ وقال السدي‏:‏ في الآية تقديم وتأخير تقديره وأنزل التوراة والإنجيل والفرقان هدى للناس ‏{‏إن الذين كفروا بآيات الله‏}‏ يعني الكتب المنزلة وغيرها قيل أراد بهم نصارى وفد نجران كفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل إن خصوص السبت لا يمنع عموم اللفظ فهو يتناول كل من كفر بشيء من آيات الله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم عذاب شديد والله عزيز‏}‏ أي غالب لا يغلب ‏{‏ذو انتقام‏}‏ يعني ممن كفر به والانتقام المبالغة في العقوبة‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏}‏ أي لا يخفى عليه شيء من أمر العالم وهو المطلع على أحوالهم فقوله‏:‏

إن الله لا يخفى عليه في الأرض ولا في السماء إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات ‏{‏هو الذي يصوركم في الأرحام‏}‏ التصوير جعل الشيء على صورة والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف والأرحام جمع رحم ‏{‏كيف يشاء‏}‏ يعني الصور المختلفة المتفاوتة في الحلقة ذكراً أو أنثى أبيض أو أسود حسناً أو قبيحاً كاملاً أو ناقصاً والمعنى أنه الذي يصوركم في ظلمات الأرحام صوراً مختلفة في الشكل والطبع واللون وذلك من نطفة‏.‏

‏(‏ق‏)‏ عبدالله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله شقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح فوالله الذي لا إله إلا هو غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» ‏(‏ق‏)‏ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «وكل الله بالرحم ملكاً فيقول‏:‏ أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال‏:‏ يا رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد فما الرزق فما الأجل‏؟‏ فكتب له ذلك في بطن أمه» وقيل إن الآية واردة في الرد على النصارى وذلك أن عيسى عليه السلام كان يخبر ببعض الغيب فيقول‏:‏ أكلت في دارك كذا صنعت كذا وإنه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص وخلق من الطين طيراً فادعت النصارى فيه الإلهية وقالوا‏:‏ ما قدر على ذلك إلاّ أنه إله فرد الله تعالى عليهم بذلك‏.‏ وأخبر أن الإله المستحق لهذا الاسم هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وأنه المصور في الأرحام كيف يشاء، وأن عيسى عليه السلام ممن صوره في الرحم فنبه بكونه مصور في الرحم على أنه عبد مخلوق كغيره وأنه يخفى عليه ما لا يخفى على الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم‏}‏ وهذا أيضاً في الرد على النصارى حيث قالوا‏:‏ عيسى ولد الله كأنه قال‏:‏ كيف يكون ولد إله وقد صوره الله في الرحم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب‏}‏ يعني القرآن ‏{‏منه آيات محكمات‏}‏ يعني مبينات مفصلات أحكمت عبارتها من احتمال التأويل والاشتباه سميت محكمة من الإحكام كأنه تعالى أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها ‏{‏هن أم الكتاب‏}‏ يعني هن أصل الكتاب الذي يعول عليه من الأحكام، ويعمل به في الحلال والحرام فإن قلت‏:‏ كيف قال هن أم الكتاب ولم يقل أمهات الكتاب‏؟‏ قلت‏:‏ لأن الآيات في اجتماعها وتكاملها كالآية الواحدة وكلام الله كله شيء واحد‏.‏ وقيل‏:‏ إن كل آية منهن أم الكتاب كما قال وجعلنا ابن مريم وأمة آية يعني أن كل واحد منهما آية ‏{‏وأخر‏}‏ جمع أخرى ‏{‏متشابهات‏}‏ يعني أن لفظه يشبه لفظ غيره ومعناه يخالف معناه‏.‏ فإن قلت‏:‏ قد جعله هنا محكماً ومتشابهاً وجعله في موضع آخر كله محكماً فقال في أول هود ‏{‏الر كتاب أحكمت آياته‏}‏ وجعله في موضع آخر كله متشابهاً‏.‏ فقال تعالى في الزمر‏:‏ ‏{‏الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً‏}‏ فكيف الجمع بين هذه الآيات‏.‏ قلت‏:‏ حيث جعله كله محكماً أراد أنه كله حق وصدق ليس فيه عبث ولا هزل وحيث جعله كله متشابهاً أراد أن بعضه يشبه بعضاً في الحسن والحق والصدق، وحيث جعله هنا بعضه محكماً وبعضه متشابهاً فقد اختلف عبارات العلماء فيه فقال ابن عباس‏:‏ المحكمات الثلاث آيات التي في آخر سورة الأنعام وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم‏}‏ ونظيرها في بني إسرائيل ‏{‏وقضى ربك أن لا تعبدوا إلاّ إياه الآيات‏}‏‏.‏ وعنه أن الآيات المحكمة هي الناسخ والمتشابهات هي الآيات المنسوخة وبه قال ابن مسعود وقتادة والسدي وقيل إن المحكمات ما فيه أحكام الحلال والحرام والمتشابهات ما سوى ذلك يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً وقيل‏:‏ إن المحكمات ما طلع الله عباده على معناه والمتشابه ما استاثر الله بعلمه فلا سبيل لأحد إلى معرفته نحو الخبر عن أشراط الساعة مثل الدجال ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى عليه السلام وطلوع الشمس من مغربها وفناء الدنيا وقيام الساعة فجميع هذا مما استأثر الله بعلمه وقيل‏:‏ إن المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلاّ وجهاً واحداً والمتشابه ما يحتمل أوجهاً وروي ذلك عن الشافعي وقيل إن المحكم سائر القرآن والمتشابه هي الحروف المقطعة في أوائل السور‏.‏ قال ابن عباس إن رهطاً من اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له حيي بلغنا‏:‏ أنك أنزل عليك الم فأنشدك الله أأنزل عليك قال نعم‏.‏ قال‏:‏ إن كان ذلك حقاً فإني أعلم مدة ملك أمتك هي إحدى وسبعون سنة فهل أنزل عليك غيرها‏؟‏ قال‏:‏ نعم آلمص قال‏:‏ فهذه أكثر هي إحدى وستون ومائة فهل أنزل عليك غيرها‏؟‏ قال نعم آلر قال‏:‏ هذه أكثر هي مائتان وإحدى وثلاثون سنة فهل من غيرها‏؟‏ قال‏:‏ نعم آلمر قال هذه أكثر هي مائتان وإحدى وسبعون سنة‏.‏

وقد اختلط علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليله ونحن ممن لا يؤمن بهذا‏.‏ فأنزل الله هذه الآية قوله تعالى‏.‏ ‏{‏فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه‏}‏ وقيل‏:‏ إن المحكم ما لم تتكرر ألفاظه والمتشابه ما تكررت ألفاظه وقيل‏:‏ إن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان‏.‏ والمتشابه ما احتاج إلى بيان وقيل‏:‏ إن المحكم هو الأمر والنهي والوعد والوعيد والمتشابه هو القصص والأمثال‏.‏ فإن قلت‏:‏ إنما نزل القرآن لبيانه الدين وإرشاد العباد وهدايتهم فما فائدة المتشابه وهلا كان كله محكماً‏؟‏ قلت‏:‏ ذكر العلماء عن هذا السؤال أجوبة أحدها‏.‏ أن القرآن أنزل بألفاظ العرب ولغاتهم وكلام العرب على ضربين أحدهما‏:‏ الإيجاز للاختصار والموجز الذي لا يخفى على سامعه لا يحتمل غير ظاهره، والإطالة لبيان المراد والتوكيد‏.‏ الضرب الثاني‏:‏ المجاز والكنايات والإشارات والتلويحات وإغماض بعض المعاني، وهذا الضرب هو المستحسن عند العرب والبديع في كلامهم فأنزل الله تعالى على هذين الضربين ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله فكأنه قال‏:‏ عارضوه بأي الضربين شئتم، ولو نزل كله محكماً واضحاً لقالوا‏:‏ هلا أنزل بالضرب المستحسن عند الجواب الثاني أن الله تعالى أنزل المتشابه لفائدة عظيمة، وهي أن يشتغل أهل العلم والنظر بردهم المتشابه إلى المحكم فيطول بذلك فكرهم ويتصل بالبحث عن معانيه اهتمامهم فيثابون على تعبهم كما أثبتوا على عباداتهم‏.‏ ولو أنزل القرآن كله محكماً لاستوى في معرفته العالم والجاهل ولم يفضل العالم على غيره ولماتت الخواطر وخمدت الفكرة، ومع الغموض تقع الحاجة إلى الفكرة والحيلة إلى استخراج المعاني‏.‏ وقد قيل في عيب الغنى إنه يورث البلادة وفي فضيلة الفقر إنه يورث الفطنة‏.‏ وقيل‏:‏ إنه يبعث على الحيلة لأنه إذا احتاج احتال‏.‏ الجواب الثالث‏:‏ أن أهل كل علم يجعلون في علومهم معاني غامضة ومسائل دقيقة ليختبروا بذلك أذهان المتعلمين منهم على انتزاع الجواب لأنهم إذ قدروا على انتزاع المعاني الغامضة كانوا على الواضح أقدر، فلما كان ذلك حسناً عند العلماء جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النحو‏.‏ الجواب الرابع‏:‏ ان الله تعالى أنزل المتشابه في كتابه مختبراً به عباده ليقف المؤمن عنده ويرد علمه إلى عالمه فيعظم بذلك ثوابه، ويرتاب به المنافق فيداخله الزيغ فيستحق بذلك العقوبة كما ابتلى بنو إسرائيل بالنهر والله أعلم بمراده‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الذين في قلوبهم زيغ‏}‏ أي ميل عن الحق وقيل‏:‏ الزيغ الشك واختلفوا في المعنى بهم والمشار إليهم فقيل هم وفد نجران الذين خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام وقالوا‏:‏ ألست تزعم أن عيسى روح الله وكلمته‏؟‏ قال‏:‏ بلى قالوا‏:‏ حسبنا فأنزل الله هذه الاية‏.‏

وقيل‏:‏ هم اليهود لأنهم طلبوا معرفة مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه بحساب الجميل من الحروف المقطعة في أوائل السور‏.‏ وقيل‏:‏ هم المنافقون وقيل‏:‏ هم الخوارج وكان قتادة يقول‏:‏ إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري من هم‏.‏ وقيل هم جميع المبتدعة ‏{‏فيتبعون ما تشابه منه‏}‏ يعني يحيلون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم، ويقولون‏:‏ ما بال هذه الاية عمل بها كذا وكذا ثم نسخت‏.‏ وقيل كل من احتج لباطله بالمتشابه فهو المعنى بهذه الاية‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات إلى وما يذكر إلاّ أولو الألباب‏}‏ فقال‏:‏» إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم «وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ابتغاء الفتنة‏}‏ أي طلب الشرك والكفر‏.‏ وقيل‏:‏ طلب الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم وقيل‏:‏ طلب إفساد ذات البين ‏{‏وابتغاء تأويله‏}‏ أي تفسيره‏.‏ وأصل التأويل في اللغة‏:‏ المرجع والمصير تقول‏:‏ آل الأمر إلى كذا إذا رجع إليه وتسمى العاقبة تأويلاً لأن الأمر يصير إليه‏.‏ قال ابن عباس في قوله‏:‏ وابتغاء تأويله أي طلب بقاء ملك محمد صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ المراد بهم الكفار طلبوا متى يبعثون وكيف أحياهم بعد الموت وقيل هو طلب تفسير المتشابه وعلمه ‏{‏وما يعلم تأويله إلاّ الله‏}‏ يعني تأويل المتشابه وقيل‏:‏ لا يعلم انقضاء ملك هذه الأمة إلاّ الله تعالى لأن انقضاء ملكها مع قيام الساعة‏.‏ ولا يعلم ذلك إلاّ الله وقيل‏:‏ يجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحداً من خلقه كعلم قيام الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وعلم الحروف المقطعة، وأشباه ذلك مما استأثر الله بعلمه فالإيمان به واجب وحقائق علومه مفوضة إلى الله تعالى، وهذا قول أكثر المفسرين وهو مذهب ابن مسعود وابن عباس في رواية عنه، وأبي كعب وعائشة وأكثر التابعين فعلى هذا القول تم الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ الله‏}‏ فيوقف عليه ثم ابتدأ فقال عز من قائل ‏{‏والراسخون في العلم‏}‏ أي الثابتون في العلم وهم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في علمهم شك ‏{‏يقولون آمنا به‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ سماهم راسخين في العلم بقولهم آمنا به فرسوخهم في العلم هو الإيمان به‏.‏ وقال عمر بن عبدالعزيز في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به ‏{‏كل من عند ربنا‏}‏ يعني المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا منه وما لم نعلم ونحن معتبدون في المتشابه بالإيمان به، ونكل معرفته إلى الله تعالى‏.‏

وفي المحكم يجب علينا الإيمان به والعمل بمقتضاه‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال تفسير القرآن على أربعة أوجه فمنه تفسير لا يسع أحداً جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلاّ الله‏.‏ وقيل‏:‏ إن الواو في قوله والراسخون في العلم واو عطف يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم يقولون آمنا به‏.‏ وري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول‏:‏ أنا من الراسخين في العلم وعن مجاهد عنه أنا ممن يعلم تأويله‏.‏ ووجه هذا القول أن الله تعالى أنزل كتابه لينتفع به عباده ولا يجوز أن يكون في القرآن شيء لا يعرفه أحد من الأمة وفي المراد بالراسخين في العلم هنا قولان أحدهما‏:‏ أنهم مؤمنوا أهل الكتاب مثل عبدالله بن سلام وأصحابه دليله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكن الراسخون في العلم منهم‏}‏ والقول الثاني‏:‏ أن الراسخين هم العلماء العاملون بعلمهم‏.‏ سئل انس بن مالك عن الراسخين في العلم فقال‏:‏ العالم العامل بما علم المتبع له وقيل، الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء التقوى فيما بينه وبين الله تعالى، والتواضع فيما بينه وبين الناس، والزهد فيما بينه وبين الدنيا، والمجاهد فيما بينه وبين النفس ‏{‏وما يذكر إلاّ أولو الألباب‏}‏ أي وما يتعظ بما في القرآن إلاّ ذوو العقول وهذا ثناء من الله عز وجل على الذين قالوا آمنا به كل من عند ربنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 11‏]‏

‏{‏رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ‏(‏8‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ‏(‏10‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏11‏)‏‏}‏

وجل‏:‏ ‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا‏}‏ أي ويقول الراسخون في العلم‏:‏ ربنا لا تزغ قلوبنا أي لا تملها عن الحق والهدى كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيع ‏{‏بعد إذ هديتنا‏}‏ أي وفقتنا لدينك والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك ‏{‏وهب لنا من لدنك رحمة‏}‏ أي أعطنا توفيقاً وتثبيتاً للذي نحن عليه من الإيمان والهدى وقيل‏:‏ هب لنا تجاوزاً ومغفرة ‏{‏إنك أنت الوهاب‏}‏ الهبة العطية الخالية عن الأعواض والأغراض والوهاب في صفة الله تعالى أنه يعطي كل أحد على قدر استحقاقه‏.‏ ‏(‏م‏)‏ عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» هذا من أحاديث الصفات وللعلماء فيه قولان أحدهما‏:‏ الإيمان به وإمراره كما جاء، من غير تعرض لتأويل ولا تكييف ولا لمعرفة معناه بل نؤمن به كما جاء وأنه حق ونكل علمه إلى مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هذا القول هو مذهب أهل السنة من سلف الأمة وخلفها من أهل الحديث وغيرهم‏.‏ والقول الثاني إنه يتأول بحسب ما يليق به وأن ظاهره غير مراد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ فعلى هذا المراد هو المجاز كما يقال فلان في قبضتي وفي كفي يريد أنه تحت قدرته وفي تصرفه إلاّ أنه حال في كفه فمعنى الحديث أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء لا يمتنع عليه من شيء إلاّ يفوته ما أراد منها كما لا يمتنع على الإنسان ما بين أصبعيه فخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بما يفهمونه ويعلمونه من أنفسهم، وإنما ثنى لفظ الأصبعين والقدرة واحدة لأنه جرى على المعهود من التمثيل بحسب ما اعتادوه وإن كان غير مقصود به التثنية أو الجمع، وهذا مذهب جمهور المتكلمين وغيرهم من المتأخرين‏.‏ وإنما خص القلوب بالذكر لفائدة وهي أن الله تعالى جعل القلوب، محلاً للخواطر والإرادات والنيات وهي مقدمات الأفعال ثم جعل سائر الجوارح تابعة للقلوب في الحركات والسكنات والله أعلم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه‏}‏ أي ليوم القضاء‏.‏ وقيل‏:‏ اللام بمعنى في أي يوم لا ريب فيه أي لا شك فيه أنه كائن وهو يوم القيامة ‏{‏إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏ هذا من بقية دعاء الراسخين في العلم، وذلك أنهم طلبوا من الله تعالى أن يصرف قلوبهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة وذلك من مصالح الدين والدنيا ثم إنهم اتبعوا ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه‏}‏ ومعناه إنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ونعلم أن وعدك حق، وأنك لا تخلف الميعاد فمن أزغت قلبه فهو هالك، ومن مننت عليه بالهداية والرحمة فهو ناج من العذاب سعيد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس‏:‏ هم قريظة والنضير ‏{‏لن تغني‏}‏ أي لن تنفع ولن تدفع ‏{‏عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً‏}‏ أي من عذاب الله شيئاً وقيل‏:‏ من بمعنى عند أي عند الله شيئاً ‏{‏وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كفعل آل فرعون وصنيعهم في الكفر‏.‏ وقيل‏:‏ كسنة آل وقيل كعادة آل فرعون والمعنى أن عادة هؤلاء الكفار في تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحود الحق كعادة آل فرعون فإنهم كذبوا موسى وصدقوا فرعون ‏{‏والذين من قبلهم‏}‏ يعني كفار الأمم الماضية مثل عاد وثمود وغيرهم ‏{‏كذبوا بآياتنا‏}‏ يعني لما جاءتهم بها الرسل ‏{‏فأخذهم الله بذنوبهم‏}‏ أي فعاقبهم الله بسبب تكذيبهم ‏{‏والله شديد العقاب‏}‏ وقيل في معنى الآية‏:‏ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفار الأمم الخالية فأخذناهم فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏12‏)‏ قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون‏}‏ قرئ بالتاء فيهما فمن قرأ بالياء المنقوطة فمعناه بلغهم يا محمد أنهم سيغلبون ويحشرون، ومن قرأ التاء المنقوطة فوق فمعناه قل لهم‏:‏ ستغلبون وتحشرون ‏{‏إلى جهنم‏}‏ قيل‏:‏ أراد بالذين كفروا مشركي قريش والمعنى قل لكفار مكة‏:‏ ستغلبون يوم بدر تحشرون في الآخرة إلى جهنم فلما نزلت هذه الآية قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر‏:‏ إن الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم وقيل‏:‏ إن أبا سفيان جمع جماعة من قومه بعد وقعة بدر فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه الآية نزلت في اليهود‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إن يهود المدينة قالوا لما هزم رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدر، هذا والله النبي الذي بشر به موسى لا ترد له راية وأرادوا إتباعه ثم قال بعضهم لبعض‏:‏ لا تعجلوا حتى تنظروا واقعة أخرى‏.‏ فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكواً وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فنقضوا العهد وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكباً إلى مكة ليستفزهم فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الاية‏.‏ وقال ابن عباس وغيره‏:‏ لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال‏:‏ يا معشر اليهود احذروا من الله ما أنزل بقريش يوم بدر، وأسلموا قبل أن ينزل لكم ما نزل بهم فقد عرفتم إني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا‏:‏ يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة وإنا الله لو قاتلناك لعرفت إنا نحن الناس‏.‏ فأنزل الله عز وجل ‏{‏قل للذين كفروا‏}‏ يعني من اليهود ‏{‏ستغلبون‏}‏ أي ستهزمون ‏{‏وتحشرون‏}‏ يعني في الآخرة إلى جهنم ‏{‏وبئس المهاد‏}‏ أي الفراش والمعنى‏:‏ بئس ما مهد لهم في النار‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏قد كان لكم آية في فئتين التقتا‏}‏ قيل‏:‏ الخطاب للمؤمنين يروى ذلك عن ابن مسعود والحسن‏.‏ وقيل‏:‏ هو خطاب لكفار مكة فيكون عطفاً على الذي قبله فيخرج على قول ابن عباس ‏(‏1‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو خطاب لليهود قاله ابن جرير‏.‏ فإن قلت‏:‏ لم قال قد كان لكم آية ولم يقل قد كانت لأن الآية مؤنثة‏؟‏ قلت‏:‏ كل ما ليس بمؤنث حقيقي يجوز تذكيره وقيل‏:‏ إنه رد المعنى إلى البيان فمعناه قد كان لكم بيان فذهب إلى المعنى وترك اللفظ‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إنما ذكر لأنه حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث فذكر الفعل وكل ما جاء من هذا فهذا وجهه ومعنى الاية قد كان لكم آية أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون في فئتين أي فرقتين وأصلها في الحرب لأن بعضهم يفيء إلى بعض أي يرجع ‏{‏التقتا‏}‏ يعني يوم بدر ‏{‏فئة تقاتل في سبيل الله‏}‏ أي في طاعة الله وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون رجلاً من الأنصار، وكان صاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكان فيهم سبعون بعيراً وفرسان وكان معهم من السلاح ستة أذرع وثمانية سيوف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخرى كافرة‏}‏ أي وفرقة أخرى كافرة وهم مشركو مكة وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً من المقاتلة وكان رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان فيهم مائة فرس وكانت وقعة بدر أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يرونهم مثليهم‏}‏ قرئ بالتاء يعني ترون أهل مكة ضعفي المسلمين يا معشر اليهود وذلك أن جماعة من اليهود كانوا قد حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة ولمن النصر فرأوا المشركين مثلي عدد المسلمين، ورأوا النصر للمسلمين فكان ذلك معجزة‏.‏ وقرئ يرونهم بالياء واختلفوا في وجه قراءة الياء فجعل بعضهم الرؤية للمسلمين ثم له تأويلان أحدهما‏:‏ يرى المسلمون المشركين مثليهم كما هم‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف قال مثليهم وإنما كانوا ثلاثة أمثالهم‏.‏ قلت‏:‏ هذا مثل قول الرجل وعنده درهم أنا محتاج إلى مثلي هذا الدرهم يعني إلى مثليه سواه فيكون ثلاثة دراهم ووجه آخر وهو أن يكون الله تعالى أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي يعلم المؤمنون أنهم يغلبونهم لأزالة الخوف من قلوبهم، وهذا التأويل الثاني هو الأصح قلل الله المشركون في أعين المسلمين حتى رأوهم مثليهم‏.‏ فإن قلت كيف الجمع بين قوله تعالى ‏{‏يرونهم مثليهم‏}‏ وبين قوله‏:‏ ‏{‏وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم‏}‏ وكيف يقال‏:‏ إن المشركين استكثروا المسلمين أو المسلمين استكثروا المشركين، وإن الفئتين تساويا في استقلال إحداهما الأخرى‏.‏ قلت‏:‏ إن التقليل والتكثير كانا في حالتين مختلفتين فإن قيل‏:‏ إن الفئة الرائية هم المسلمون فإنهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ما هم عليه‏.‏ ثم قلل الله المشركين في أعين المسلمين حتى اجترؤوا عليهم فصبروا على قتالهم بذلك السبب‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا فاهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً‏.‏ وفي رواية أخرى عنه قال‏:‏ لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي‏:‏ تراهم سبعين‏؟‏ قال‏:‏ أراهم مائة قال فأسرنا منهم رجلاً فقلنا‏:‏ كم كنتم قال‏:‏ ألفاً وإن قلنا إن الفئة الرائية هم المشركون على قول بعضهم إن الرؤية راجعة إلى المشركين يعني رأى المشركون المسلمين مثليهم فقلل الله المسلمين في أعين المشركين في أول القتال ليجترئوا عليهم ولا ينصرفوا، فلما أخذوا في القتال كثر الله المسلمين في أعين المشركين ليجتنبوا فيكون ذلك سبب خذلانهم، وقد روي أن المشركين لما أسروا يوم بدر قالوا للمسلمين‏:‏ كم كنتم قالوا‏:‏ كنا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً قالوا‏:‏ يعني المشركين ما كنا نراكم إلاّ تضعفون علينا فكان في وقعة بدر أحوال في التكثير والتقليل وما ذلك إلاّ إظهاراً للقدرة التامة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رأي العين‏}‏ أي في رأي العين ‏{‏والله يؤيد‏}‏ اي يقوي ‏{‏بنصره من يشاء إن في ذلك‏}‏ يعني الذي ذكر من النصرة‏.‏ وقيل رؤية الجيش مثليهم ‏{‏لعبرة‏}‏ أي لآية والعبرة الدلالة الموصلة إلى اليقين المؤدية إلى العلم وأصلها من العبور كأنه طريق يعبرونه فيوصلهم إلى مرادهم‏.‏ وقيل‏:‏ العبرة هي التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم ‏{‏لأولي الأبصار‏}‏ لذوي العقول والبصائر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏زين للناس‏}‏ قال أهل السنة‏:‏ المزين هو الله تعالى لأنه تعالى خالق الجميع أفعال العباد لأنه الله تعالى خلق جميع ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده وإباحتها للعبد تزيين لها قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق‏}‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً‏}‏ وكل ذلك يدل على أن المزين هو الله تعالى‏.‏ ومما يؤيد ذلك قراءة مجاهد زين بفتح الزاي على تسمية الفاعل وقال الحسن‏:‏ المزين هو الشيطان وهو قول طائفة من المعتزلة ويدل على ذلك أن الله تعالى زهد في هذه الأشياء بأن أعلم عباده زوالها‏.‏ ولأن الله تعالى أطلق حب الشهوات فيدخل فيه الشهوات المحرمة، والمزين لذلك هو الشيطان، ولأن الله تعالى ذكر هذه الأشياء في معرض الذم للدنيا ويدل عليه آخر الآية وهو قول تعالى ‏{‏والله عنده حسن المآب‏}‏‏.‏ ونقل عن أبي علي الجبائي من المعتزلة أن كل ما كان حراماً كان المزين لذلك هو الشيطان، وكل ما كان مباحاً كان المزين له هو الله تعالى، والصحيح ما ذهب إليه أهل السنة لأن الله تعالى خالق كل شيء ولا شريك له في ملكه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حب الشهوات‏}‏ يعني المشتهيات لأن الشهوة توقان النفس إلى الشيء المشتهى ‏{‏من النساء‏}‏ إنما بدأ بذكر النساء لأن الالتذاذ بهن أكثر، والاستئناس بهن أتم، ولأنهن حبائل الشيطان وأقرب إلى الافتان ‏{‏والبنين‏}‏ إنما خص البنين بالذكر لأن حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى ووجه حبه ظاهر لأنه يتكثر به ويعضده ويقوم مقامه‏.‏ وقد جعل الله تعالى في قلب الإنسان حب الزوجة والولد لحكمه بالغة وهي بقاء التوالد ولو زالت تلك المحبة لما حصل ذلك ‏{‏والقناطير المقنطرة‏}‏ جمع قنطار وسمي قنطاراً من الإحكام والعقد يقال‏:‏ قنطرته إذا أحكمته ومنه القنطرة المحكمة الطاق واختلفوا في القنطار هل محدود أو غير محدود‏؟‏ على قولين أحدهما‏:‏ أنه محدود ثم اختلفوا في حده فروي عن معاذ بن جبل أن القنطار ألف ومائتا أوقية‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ألف ومائتا مثقال وعنه أنه اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار دية أحدكم وبه قال الحسن‏:‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو مائة ألف ومائة من ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم‏.‏ ولقد جاء الإسلام يوم جاء بمكة مائة رجل قد قنطروا، وقال سعيد بن المسيب وقتادة‏:‏ هو ثمانون ألفاً وقال مجاهد‏:‏ سبعون ألفاً‏.‏ وقال السدي‏:‏ هو أربعة آلاف مثقال والقول الثاني‏:‏ إن القنطار ليس بمحدود‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ القنطار مال الكثير بعضه على بعض وروي عن أبي عبيدة أنه حكي عن العرب أن القنطار وزن لا يحد وهو اختيار ابن جرير الطبري وغيره‏.‏

وقال الحاكم القنطار ما بين السماء والأرض من مال‏.‏ وقال أبو نصرة‏:‏ القنطار ملء مسك ثور ذهباً أو فضة وقال القنطار من المال ما فيه عبور الحياة نشبيهاً بعبور القنطرة المقنطرة أي المجموعة وقيل‏:‏ المضاعفة لأن القناطير جمع وأقله ثلاثة والمقنطرة المضاعفة أن تكون ستة أو تسعة وقيل المقنطرة المسكوكة المنقوشة ‏{‏من الذهب والفضة‏}‏ إنما بدأ بهما من بين سائر أصناف الأموال لأنهما قيم الأشياء وإنما كانا محبوبين لأن المالك لهما مالك قادر على ما يريده وهي صفة كمال وهي محبوبة‏.‏ وقيل سمي الذهب ذهباً لأنه يذهب ولا يبقى والفضة لأنها تنفض أي تتفرق ‏{‏والخيل المسومة‏}‏ الخيل جمع لا إلاّ واحد له من لفظه كالقوم والرهط سميت الأفراس خيلاً لاختيالها في مشيتها‏.‏ وقيل‏:‏ لأن الخيل لا يركبها أحد إلاّ وجد نفسه مخيلة عجباً واختلفوا في معنى المسومة على ثلاثة أقوال القول الأول‏:‏ إنها الراعية يقال أممت الدابة وسومتها إذا أرسلتها المرعى والمقصود أنها إذا رعت زاد حسنها والقول الثاني أنها من السمة وهي العلامة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في تلك العلامة فقيل‏:‏ الثالث هي الغرة والتحجيل التي تكون في الخيل وقيل‏:‏ هي الخيل البلق وقيل‏:‏ هي المعلمة بالكي‏.‏ والقول الثالث‏:‏ إنها المضمرة الحسان وتسويمها حسنها ‏{‏والأنعام‏}‏ جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم ولا يقال للجنس الواحد منها إلاّ للإبل خاصة فإنه غلب عليها ‏{‏والحرث‏}‏ يعني الزرع ‏{‏ذلك‏}‏ يعني ذلك الذي ذكر من هذه الأصناف ‏{‏متاع الحياة الدنيا‏}‏ أي الذي يستمتع به في الحياة الدنيا وهي زائلة فانية يشير إلى أن الحياة الدنيا متاع يفني ‏{‏والله عنده حسن المآب‏}‏ أي المرجع، فيه إشارة إلى التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ فيه إشارة إلى أن أتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها فيما يكون فيه صلاحه في الآخرة لأنها السعادة القصوى‏.‏